فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} يبحر بكم ويحملكم على التسيير، وقرأ أبو جعفر وابن عامر: ينشركم بالنون من النشر، وهو البسط في البر على الظهر وفي البحر على الفلك {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} أي في السفن يكون واحد أو جمعًا، وقرأ عيسى الفلك بضم اللام.
{وَجَرَيْنَ بِهِم} يعني جرت السفن بالناس وهذا خطاب تكوين رجع من الخطاب إلى الخبر {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} أي الريح {جَاءَتْهَا} يعني الفلك وهو جواب لقوله حتى إذا جاءتها {رِيحٌ عَاصِفٌ} شديد يقال: عصفت الريح وأعصفت والريح، مذكر ومؤنث، وقيل: لم يقل: عاصفة لاختصاص الريح بالعصوف، وقيل: للنسب أي ذات صوف {وَجَاءَهُمُ} يعني سكان السفينة {الموج} وهو حركة الماء وأخلاطه {مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا} وأيقنوا {أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} إذا أحاط بهم الهلاك {دَعَوُاْ الله} هنالك {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} للدعاء دون أوثانهم وكان مفزعهم إلى الله دونها.
روى الثوري عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيد في قوله تعالى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} قال: قالوا في دعائهم: أهيا شراهيا وتفسيره: يا حيُّ يا قيوم {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} خلصتنا يا ربنا {مِنْ هذه} الريح العاصف {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لك بالإيمان والطاعة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} هذه الآية تتضمن تعديد النعمة فيما هي الحال بسبيله من ركوب البحر، وركوبه وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه، وكذلك لضروة المعاش بالصيد فيه أو لتصرف التجر، وأما ركوبه لطلب الغنى والاستكثار فمكروه عند الأكثر، وغاية مبيحة أن يقول وتركه أحسن، وأما ركوبه في ارتجاجه فمكروه ممنوع وفي الحديث: «من ركب البحر في ارتجاجه فقد برئت منه الذمة» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البحر لا أركبه أبدًا» وقرأ جمهور القراء من السبعة وغيرهم {يسيركم} قال أبو علي وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية، لأن العرب تقول: سرت الرجل وسيّرته ومنه قول الهذلي: [الطويل]
فلا تجزعنْ من سُنة أنت سرتها ** وأول راض سنة من يسيرها

قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهدًا في هذا. وهو أن يجعل الضمير كالظرف كما تقول سرت الطريق وهذه قراءة الجمهور من سير، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود وفي مصحف أبي شيخ وقال عوف بن أبي جميلة قد: كان يقرأ {ينشركم} فغيرها الحجاج بن يوسف {يسيركم}، قال سفيان بن أبي الزعل: كانوا يقرأون {ينشركم} فنظروا في مصحف ابن عفان فوجدوها {يسيركم} فأول من كتبها كذلك الحجاج، وقرأ ابن كثير في بعض طرقه {يسيركم} من أسار، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة {يَنْشُركم} بفتح الياء وضم الشين من النشر والبث، وهي قراءة زيد بن ثابت والحسن وأبي العالية وأبي جعفر وعبيد الله بن جبير بن الفصيح وأبي عبد الرحمن وشيبة، وروي عن الحسن أنه قرأ {يُنشِركم} بضم الياء وكسر الشين وقال: هي قراءة عبد الله، قال أبو حاتم: أظنه غلط، و{الفلك} جمع فلك وليس باسم واحد للجميع والفرد ولكنه فعل جمع على فُعل، ومما يدل على ذلك قولهم فلكان في التثنية وقراءة أبي الدرداء وأم الدرداء {في الفلكي} على وزن فعليّ بياء نسب وذلك كقولهم أشقري وكدواري في دور الدهر وكقول الصلتان انا الصلتاني، وقوله: {وجرين} علامة قليل العدد، وقوله: {بهم} خروج من الحضور إلى الغيبة، وحسن ذلك لأن قولهم: {كنتم في الفلك} هو بالمعنى المعقول حتى إذا حصل بعضهم في السفن، و{الريح} إذا أفردت فعرفها أن تستعمل في العذاب والمكروه، لكنها لا يحسن في البحر أن تكونه إلا واحدة متصلة لا نشرًا، فقيدت المفردة بالطيب فخرجت عن ذلك العرف وبرع المعنى، وقرأ ابن أبي عبلة {جاءتهم ريح عاصف}، والعاصف الشديدة من الريح، يقال: عصفت الريح، وقوله: {وظنوا} على بابه في الظن لكنه ظن غالب مفزع بحسب أنه في محذور، وقوله: {دعوا الله} أي نسوا الأصنام والشركاء وجردوا الدعاء لله، وذكر الطبري في ذلك عن بعض العلماء حكاية قول العجم:
هيا شراهيا ومعناه يا حي يا قيوم، قال الطبري: جواب قوله: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين}: {جاءتها ريح عاصف} وجواب قوله: {وظنوا أنهم أحيط بهم}: {دعوا الله مخلصين}. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {هو الذي يسيِّركم} أي: الله الذي هو أسرع مكرًا، هو الذي يسيِّركم {في البرِّ} على الدواب، وفي البحر على السفن، فلو شاء انتقم منكم في البر أو في البحر.
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر: {ينشركم} بالنون والشين من النشر، وهو في المعنى مثل قوله: {وبثَّ منهما رجالًا كثيرًا} [النساء: 2].
والفلك: السفن.
قال الفراء: الفلك تذكّر وتؤنث، وتكون واحدة وتكون جمعًا، قال تعالى هاهنا: {جاءتها} فأنَّثَ، وقال في [يس: 41]: {في الفلك المشحون} فذكّر.
قوله تعالى: {وجرين بهم} عاد بعد المخاطبة لهم إِلى الإِخبار عنهم.
قال الزجاج: كل من أقام الغائب مقام مَن يخاطبه جاز أن يردَّه إِلى الغائب، قال الشاعر:
شَطَّتْ مَزارُ العاشقين فأصبحتْ ** عَسِرًا علي طلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ

قوله تعالى: {بريح طيبة} أي: ليِّنةٍ.
{وفرحوا بها} للينها.
{جاءتها} يعني الفلك.
قال الفراء: وإِن شئتَ جعلتَها للريح، كأنك قلت: جاءت الريحَ الطيبةَ ريحٌ عاصف، والعرب تقول: عاصف وعاصفة، وقد عصفت الريح وأعصفت، والألف لغة لبني أسد.
قال ابن عباس: الريح العاصف: الشديدة.
قال الزجاج: يقال: عصفت الريح، فهي عاصف وعاصفة، وأعصفت، فهي معصف ومعصفة.
{وجاءهم الموج من كل مكان} أي: من كل أمكنة الموج.
قوله تعالى: {وظنوا} فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى اليقين.
والثاني: أنه التوهُّم.
وفي قوله: {أحيط بهم} قولان:
أحدهما: دَنوا من الهلكة.
قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن العدوَّ إِذا أحاط ببلد، فقد دنا أهله من الهلكة.
وقال الزجاج: يقال لكل من وقع في بلاء: قد أحيط بفلان، أي: أحاط به البلاء.
والثاني: أحاطت بهم الملائكة، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: {دَعَوُا اللهَ مخلصين له الدِّين} دون أوثانهم.
قال ابن عباس: تركوا الشرك، وأخلصوا لله الربوبية، وقالوا: {لئن أنجيتنا من هذه} الريح العاصف {لنكونن من الشاكرين} أي: الموحِّدين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} أي يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على الفُلْك.
وقال الكلبي: يحفظكم في السير.
والآية تتضمن تعديد النّعم فيما هي الحال بسبيله من ركوب الناس الدوابَ والبحر.
وقد مضى الكلام في ركوب البحر في البقرة.
وَ{يُسَيِّرُكُمْ} قراءة العامة.
ابن عامر {ينشركم} بالنون والشين، أي يبثّكم ويفرّقكم.
والفُلْك يقع على الواحد والجمع، ويذكر ويؤنث، وقد تقدّم القول فيه.
وقوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم} خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير؛ قال النابغة:
يا دار ميّة بالعَلْياء فالسَّند ** أقْوَت وطال عليها سالف الأمَد

قال ابن الأنباري: وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب؛ قال الله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} [الإنسان: 22] فأبدل الكاف من الهاء.
قوله تعالى: {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} تقدّم الكلام فيها في البقرة.
{جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} الضمير في {جاءتها} للسفينة.
وقيل للريح الطيبة.
والعاصف الشديدة؛ يقال: عصفت الريح وأعصفت، فهي عاصف ومُعْصِف ومُعْصِفة أي شديدة، قال الشاعر:
حتى إذا أعصفت ريح مُزَعزِعة ** فيها قطار ورعد صوته زَجل

وقال: {عاصف} بالتذكير لأن لفظ الريح مذكر، وهي القاصف أيضًا.
والطيبة غير عاصف ولا بطيئة.
{وَجَاءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ} والموج ما ارتفع من الماء {وظنوا} أي أيقنوا {أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي أحاط بهم البلاء؛ يقال لمن وقع في بلِية: قد أحيط به، كأن البلاء قد أحاط به؛ وأصل هذا أن العدوّ إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله.
{دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي دعوه وحده وتركوا ما كانوا يعبدون.
وفي هذا دليل على أن الخلق جُبِلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافرًا؛ لانقطاع الأسباب ورجوعه إلى الواحد رب الأرباب؛ على ما يأتي بيانه في النمل إن شاء الله تعالى.
وقال بعض المفسرين: إنهم قالوا في دعائهم أهيا شراهيًا؛ أي يا حي يا قيوم.
وهي لغة العجم.

.مسألة [في دلالة الآية على جواز ركوب البحر مطلقًا]:

هذه الآية تدلّ على ركوب البحر مطلقًا، ومن السّنة حديثُ أبي هريرة وفيه: «إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء...» الحديث.
وحديث أنس في قصة أُمّ حرام يدلّ على جواز ركوبه في الغَزوِ، وقد مضى هذا المعنى في البقرة مستوفى والحمد لله.
وقد تقدّم في آخر الأعراف حكم راكب البحر في حال ارتجاجه وغليانه، هل حكمه حكم الصحيح أو المريض المحجور عليه؛ فتأمله هناك.
قوله تعالى: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه} أي من هذه الشدائد والأهوال.
وقال الكلبي: من هذه الريح.
{لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي من العاملين بطاعتك على نعمة الخلاص. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} يعني: هو الله الذي يسيركم يعني يحملكم في البر على ظهور الدواب وفي البحر على الفلك.
وقيل: معناه هو الله الهادي لكم في السير في البر والبحر طلبًا للمعاش أو هو المهيء لكم أسباب السير في البر والبحر {حتى إذا كنتم في الفلك} يعني: السفن.
ولفظة الفلك: تطلق على الواحد والجمع وتقديراهما مختلفان فإن أريد بهما الواحد كان كبناء قفل، وإن أريد بها الجمع كان كبناء أسد والمراد بها هنا الجمع لقوله تعالى: {وجرين بهم} يعني: وجرت السفن بركابها.
فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت: قال صاحب الكشاف: المقصود منه المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح وقال غيره إن مخاطبة الله لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغائب.
وقيل: إن الالتفات في الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس من فصيح كلام العرب {بريح طيبة} يعني وجرت السفن بريح طيبة ساكنة {وفرحوا بها} يعني وفرح ركبان تلك الفلك بتلك الريح الطيبة، لأن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود حصل له النفع التام والمسرة العظيمة بذلك {جاءتها ريح عاصف} قيل: إن الضمير في جاءتها يرجع إلى الريح فيكون المعنى: جاءت الريح الطيبة ريح عاصف فأقلبتها.
وقيل: الضمير في جاءتها يرجع إلى الفلك.
يعني: جاءت الفلك.
ريح عاصم.
يقال: ريح عاصف وعاصفة، ومعنى عصفت الريح: اشتدت.
وأصل العصف: السرعة وإنما قال: عاصف، لأنه أراد به ذات عصوف أو لأجل أن لفظ الريح قد يذكر {وجاءهم الموج من كل مكان} يعني: وجاء ركبان السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من غوارب الماء في البحر وقيل: هو شدة حركة الماء واختلاطه {وظنوا أنهم أحيط بهم} يعني: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق.
وقيل: المراد من الظن اليقين أي وأيقنوا أنه الهلاك.
وقيل: بل المراد منه المقاربة من الهلاك والدنو منه والإشراف عليه {دعوا الله مخلصين له الدين} يعني أنهم أخلصوا في الدعاء لله ولم يدعو أحدًا سواه من آلهتهم وقيل في معنى هذا الإخلاص العلم الحقيقي لا إخلاص الإيمان لأنهم كانوا يعلمون حقيقة أنه لا ينجيهم من جميع الشدائد والبلايا إلا الله تعالى فكانوا إذا وقعوا في شدة وضر وبلاء أخلصوا لله الدعاء {لئن أنجيتنا} أي قائلين لئن أنجيتنا يا ربنا {من هذه} يعني من هذه الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة {لنكونن من الشاكرين} يعني من الشاكرين لك على إنعامك علينا بخلاصنا مما نحن فيه من هذه الشدة. اهـ.